المجلة عدد شهر سبتمبر 2012
http://www.almagalla.info/2012/sep.htm
============
النخل الباسقات
يقول المولى تبارك وتعالى ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ • وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ • رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ ق 9: 11.
أيها الأحباب تعالوا لنرتقى بالمعانى القرآنية ولانقف عند حد فى المعانى، فنتشرع مثلاً ولا نتحقق، أو نقر بعلم الشريعة وننكر علم الحقيقة، فهذا تفسق من الدين فإن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً، كما قال الحبيب صلوات الله وسلامه عليه، فنترك بذلك علم التأويل وعلم الاشارة، فيفوتنا من الحقيقة الجانب العظيم الذى ساقه لنا من تقربوا الى الله من عباده الصالحين، الذين غاصوا فى بحار القرآن، فاستخرجوا لنا من الجواهر واللآلىء واليواقيت، ما إن علمناها سمت عقولنا وأرواحنا، وسرنا وتقدمنا فى التقرب إلى الله، كما جاء فى الحاوى للفتاوى للإمام السيوطى: عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة (من عادى لى ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىّ عبدى بشىء أحب إلىّ مما افترضت عليه، ومايزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذنى لأعيذنه، وما ترددت عن شىء أنا فاعله ترددى عن نفس المؤمن يكره الموت وأكره مساءته) تفرد به البخارى، فهؤلاء الأولياء لابد أن الله قد اختصهم بعلم أعلى من علم العامة ويقول المولى تبارك وتعالى ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ يوسف 76، فهذا يعلم عن الآية شيئاً والآخر أعلم منه فى نفس الآية فقد بصّره الله بما لم يطلع عليه أحد قبله ليعطى سبحانه ما يشا وله الخيار، وإلا لكان للقرآن تفسيراً واحداً وفقط وهذا غير حاصل.
نرجع إلى الآية التى نحن بصددها فنتعرف عليها من جهة الشرع أولاً: ونقر ما تعرفنا عليه ثم نستزيد من العلم الفوقى فنتفوق ونرقى.
أولاً: من تفسير الشريعة يقول الامام ابن كثير: قوله تعالى ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ أى: نافعاً، ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ﴾ أى: حدائق من بساتين ونحوها، ﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾ وهو: الزرع الذى يراد لحبه وادخاره ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ﴾ أى: طوالاً شاهقات، وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسدى، وغيرهم: الباسقات الطوال، ﴿لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾ أى: منضود، ﴿رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾ أى: للخلق، ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ وهى: الأرض التى كانت هامدة، فلما ﴿أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ الحج 5، من أزاهير وغير ذلك، مما يحار الطرف فى حسنها، وذلك بعد ما كانت لا نبات بها، فأصبحت تهتز خضراء، فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك، كذلك يحيى الله الموتى، وهذا المشهد من عظيم قدرته بالحس أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث.
وانظر ماذا قال ابن عجيبة فى تفسيره الشرعى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ كثير المنافع، ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ﴾ بساتين كثيرة، ﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾ أى: حب الزرع الذى شأنه أن يحصد من البُرِّ والشعير وأمثالهما، وتخصيص حب الحصيد بالذكر لأنه المقصود بالذات؛ إذ به جل القوام، ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ﴾ طوالاً فى السماء، أو: حوامل، من: بسَقت الشاة: إذا حملت، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها فى ﴿جَنَّاتٍ﴾ لبيان فضلها على سائر الأشجار، ﴿لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾ منضود، بعضه فوق بعض، والمراد: تراكم الطلع، أو: كثرة ما فيه من الثمر، ﴿رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾ أى: لرزق أشباحهم، كما أن قوله ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى﴾ ق 8، لرزق أرواحهم، وفيه تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بما ذكر من حيث التذكُّر والتبصُّر الذى هو رزق الروح أهم وأقدم من تمتُّعه من حيث الرزق الحسى، ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ﴾ بذلك الماء، ﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾ أرضاً جدبة، لا نماء فيها أصلاً، فلما أنزلنا عليها الماء ربت واهتزت بالنبات والأزهار، بعد ما كانت جامدة، وضمَّن البلدة معنى البلد فذَكَّر الوصف ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ من القبور، فكما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تُخرجون أحياء بعد موتكم، لأن إحياء الموت كإحياء الأموات، وقدّم الخبر للقصد إلى القصر، والإشارة فى ﴿كَذَلِكَ﴾ إلى الحياة المستفادة من الإحياء، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعد رتبها، أى: مثل ذلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور، لا شىء مخالف لها، وفى التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء، وعن حياة الأموات بالخروج؛ تفخيم لشأن النبات، وتهوين لأمر البعث، وتحقيق للمماثلة؛ لتوضيح منهاج القياس، وتقريبه إلى أفهام الناس.
وتعالوا نضيف الى ما قرأناه من معان قد أقررنا بها ولكن ألفاظ القرآن غنية، أغناها المغنى سبحانه فمازالت تعطى كالنخلة ولا ينتهى عطاء المولى تبارك وتعالى وفى ذلك المعنى يقول الإمام فخر الدين مخبراً عن كرم الحبيب المصطفى:
وَكَفُّهُ مِنْ عَطَاءِ اللهِ يَمْنَحُنَا وَمِنْ تَدَانِيهِ يُطْعِمُنَا وَيَسْقِينَا (28/2)
فيقول ابن عجيبة فى الإشارة والتأويل فى معنى الآيات السابقة: ونزَّلنا من السماء ماء العلوم اللدينة، كثير البركة والنفع، فأنبتنا به جنات المعارف وحب الحصيد، وهو حب المحبة؛ لأنه يحصد من القلب محبة ما سوى الله، والنخل باسقات، أى: شجرة المعرفة الكاملة لها طلع نضيد: ثمرة المعرفة وحلاوة الشهود، رزقاً لأرواح العباد، وأحيينا به نفساً ميتة بالغفلة والجهل، كذلك الخروج من ظلمة الجهل إلى نور العلم، أى: مثل هذا الخروج البديع يكون الخروج، وإلا فلا.
فعرفنا من ذلك أن الماء هنا يفسر بلغة الإشارة بالعلم اللدنى ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ الكهف 65، ولا نستطيع أن نقول هذا إلا بسند من عالم وإلا فقد تجرأنا على القرآن، تجرأنا على الله والعياذ بالله، وعرفنا أن النخل الباسقات هى شجرة المعرفة الكاملة التى تأتى لنا بثمار المعرفة وهى حلاوة الشهود لوجه الله الكريم، والذى هو تجليات من الأنوار يراها الولى بعيون الروح لا بعيون الجسد فقد طلب سيدنا موسى عليه السلام أن يراه بعيون الجسد فقال له المولى ﴿لَنْ تَرَانِى﴾ الأعراف 143، وأقول أى بعيون رأسه وإنما تستطيع بعيون الروح حينما تفنا وتصعق وفى هذا متعة لا تعادلها متعة وفى هذا الصدد يقول ابن عجيبة: رؤية الحق جائزة واقعة عند الصوفية فى الدارين، ولكن لا ينالها فى هذه الدار إلا خواص الخواص، ويُعبّرون عنها بالشهود والعيان، ولا يكون ذلك إلا بعد الفناء، وفناء الفناء بعد موت النفس وقتلها، ثم الغيبة عن حسها ورسمها، تكون بعد التهذيب والتدريب والتربية على يد شيخ كامل، لايزال يسير به ويقطع به فى المقامات، ويغيبه عن نفسه ورؤية وجوده، حتى يقول له: ها أنت وربك، وذلك أن الحق جل جلاله تجلى لعباده بأسرار المعانى خلف رداء الأوانى، وهو حس الأكوان، فأسرار المعانى لا يمكن ظهورها إلا بواسطة الأوانى، أو تقول: أسرار الذات لا تظهر إلا فى أنوار الصفات، فلو ظهرت أسرار الذات بلا واسطة لاضمحلت الأشياء واحترقت، كما فى الحديث (حِجَابُهُ النُّورُ، لَو كشَفَهُ لأحرقَت سُبُحَاتُ وَجههِ ما انتَهَى إلَيه بَصَرُهُ من خلَقِهِ).
فلا بد أن يفنى العبد عن صفات نفسه الذميمة ويتحلى بصفاة الله المحمودة التى يريدها الله منا وهذا يتأتى بالمجاهدة ومخالفة النفس فيما تقوله لنا من الأمور المذمومة وفى ذلك يقول العبد الصالح لمريديه:
وَلَيْسَ مُرِيدِى مَنْ عَشَى عَنْ كَلَامِنَا وَلَا قَائِلُ لِلنَّفْسِ يَانَفْسُ مَالَكِ (10/6)
حتى يصل إلى هذا المقام، وهذا رزق تحيى به الأرواح بالذكر بعد الغفلة، والعلم بعد الجهل، والنور بعد الظلام، كذلك الخروج، وفى هذ المعنى يقول من تحقق بكمال العبودية لله:
وَإِنَّ عُلُومِى بَاسِقَاتٌ وَطَلْعُهَا نَضِيدٌ وَرِزْقٌ لِلعِبَادِ وَرَحْمَتِى (1/30)
فالنخل الباسقات إشارة للعلوم العالية التى يتحلى بها الشيخ وهى ذات طلع نضيد أى كطلع النخلة الذى يحمل فى طيه ثمر متراكم فوق بعضه أى كثير يعنى علوم كثيرة وذلك قبل أن تنشق فإذا انشقت أصبحت رزقاً للعباد ورحمة لأنها توصلهم إلى الحضرة وتكون سر سعادتهم فى الدنيا والآخرة، هدانا الله إلى علمه وجعلنا من المصدقين حتى ننال هذا الرزق وهذه الرحمة آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإلى اللقاء فى العدد القادم بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد مقبول
=======
رابط الموضوع :- http://www.almagalla.info/2012/sep1.htm
=======
سيدة من نساء الجنة:
أم ايمن رضي الله عنها
حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
نسبها رضي الله عنها :
هى بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمر ابن النعمان الحبشية وقعت أسيرة أثناء حملة أبرهة على الكعبة. عاشت فى بيت عبد المطلب جد النبى صلى الله عليه وسلم ، وهبها بعد ذلك لابنه عبد الله، ومن بعدها إلى ولده خير الأنام صلى الله عليه وسلم وكانت له بمثابة الأم بعد موت أمه.
و قد عاصرت النبى صلى الله عليه وسلم طفلاً وصبياً ثم زوجاً للسيدة خديجة رضي الله عنها
و قد اعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم زواجه بالسيدة خديجة رضي الله عنها وقد تزوجها عبيد بن الحارث الخزرجى، فولدت له: أيمن المهاجر الشهيد يوم حنين وبه كانت تكنى.
إسلامها وهجرتها رضي الله عنها :
تعتبر أم أيمن من آل بيت النبى صلى الله عليه وسلم فقد قال صلى الله عليه وسلم عنها (هذه بقية من أهلى) وقد أسلمت أم أيمن صلى الله عليه وسلم فى أول العهد بالإسلام مع من أسلم من بيت النبى صلى الله عليه وسلم فكانت من السابقين الأولين وقد كانت رضي الله عنها من الذين هاجروا إلى الحبشة فراراً بدينهم.
زواجها من زيد بن حارثة رضي الله عنه :
استشهد زوجها عبيد الخزرجى ثم تزوجها زيد بن حارثة أيام بعث النبى صلى الله عليه وسلم فولدت له أسامة بن زيد، الذي سمى بـ"حب رسول الله ". وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال فى أم أيمن (من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة، فليتزوج أم أيمن)، فحظى بها زيد بن حارثة رضي الله عنه .
ومن مناقب هذه السيدة المباركة أنه لما أذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة المنورة هاجرت أم أيمن بمفردها من مكة إلى المدينة سيرا على الأقدام، وكانت صائمة وليس معها لا ماء ولا زاد... وجهدها العطش وكادت أن تهلك، فأتى الله لها بمعجزته التى روتها أم أيمن وهى ثقة لا تكذب فتقول "تدلى لى دلو من السماء فيه ماء برشاء أبيض، فأخذته وشربت منه حتى رُويت، واستطردت تقول ما أصابنى بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر فما عطشت بعد تلك الشربة، وإننى كنت لأصوم فى اليوم الحار فما أعطش".
روت أم أيمن عن النبى صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحاديث وروى عنها أنس بن مالك، والصنعانى، والمدنى من أئمة الحديث.
جهادها رضي الله عنها :
كانت ام أيمن رضي الله عنها لا تفارق الرسول صلى الله عليه وسلم فى جهاده وكانت لها مواقف مشهودة ومنها:
شهود الغزوات شأنها شأن جميع الصحابيات اللواتى وقر الإسلام فى قلوبهن فجاهدن وبذلن الغالى والنفيس والأرواح لإعلاء راية الإسلام ولنشر الدعوة الإسلامية، فهاهى أم أيمن تشهد "أحد" وتطوف بالماء وتسقى الجرحى وتشهدخيبر وحنينا وكان النبى صلى الله عليه وسلم يخصها ببعض العطاء، تعويضا لها ومكافأة على ما تقدمه من جهد وجهاد.
ولما خالف الرماة أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وانهزم بعض المسلمون لقيتهم أم أيمن وحثت فى وجوههم التراب وهى تقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به وهلم سيفك. ثم اتجهت نحو الرسول صلى الله عليه وسلم تستطلع أخباره حتى اطمأنت على سلامته فاطمأن قلبها.
صبرها رضي الله عنها :
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً لغزوة مؤتة فرزقه الله تعالى الشهادة فاحتسبته عند الله تعالى ثم رزق الله تعالى ابنها أيمن الشهادة فى غزوة حنين وكان من الفئة التى صبرت حول رسول الله ، فصبرت واحتسبت، وقالت “حسبنا الله ونعم الوكيل” وهتف قلبها قبل لسانها "إنا لله وإنا إليه راجعون".
مكانتها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم :
كانت رضي الله عنها عظيمة المكانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفاها انه كان يناديها "يا أمه" كفاها هذا التشريف.
وذكر النووى فى "تهذيب الأسماء واللغات" أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول (أم أيمن أمى بعد أمى).
وفى قصة طريفة أوردها صاحب السيرة الحلبية عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وأم أيمن عنده فقالت: يا رسول الله اسقنى. فقلت لها: ألرسول الله تقولين هذا؟ قالت: ما خدمته أكثر. فقال النبى صلى الله عليه وسلم (صدقت) فسقاها.
ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول: ذهبت مع النبى صلى الله عليه وسلم الى أم أيمن نزورها فقربت له طعاماً أو شراباً فإما كان صائما وإما لم يرده فجعلت تخاصمه: أى كل (رواه مسلم) وفى رواية فأقبلت تضاحكه وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم يبتسم لتصرفات أم أيمن.
وكانت رضي الله عنها تتدلل عليه صلى الله عليه وسلم تدلل الأم على ابنها فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن الرجل كان يعطى من ماله النخلات أو ما شاء الله من ماله النبى صلى الله عليه وسلم حتى فتحت عليه قريظة والنضير فجعل يرد بعد ذلك فأمرنى أهلى أن آتيه فأسأله الذى كانوا أعطوه أو بعضه وكان النبى صلى الله عليه وسلم أعطاه أم أيمن أو كما شاء قال: فسألته فأعطنيهن فجاءت أم أيمن فلوت الثوب فى عنقى وجعلت تقول: كلا والله لا إله إلا هو لا نعطيكهن وقد أعطانيهن. فقال النبى صلى الله عليه وسلم (يا أم أيمن اتركى كذا وكذا). وهى تقول لا والله حتى أعطاها عشرة أمثال ذلك أو نحوه وفى لفظ الصحيح: كلا والله حتى أعطى عشرة أمثاله. متفق عليه.
رخصة نبوية:
كانت أم أيمن رضي الله عنها عسراء اللسان لا تستطيع نطق بعض الكلمات نطقاً سليماً وقد دخلت مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: سلام لا عليكم. وكانت تريد أن تقول: سلام الله عليكم. فلما رأى النبى صلى الله عليه وسلم ذلك اختصر لها السلام إلى قولها: السلام. وذلك تيسيراً لها.
ممازحة النبى صلى الله عليه وسلم لها:
جاءت أم أيمن يوما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: يا رسول الله احملنى. فقال صلى الله عليه وسلم (أحملك على ولد الناقة) قالت: إنه لا يطيقن ولا أريده. فقال صلى الله عليه وسلم (لا أحملك إلا عليه). و قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمازحها بذلك حيث أن كل الإبل صغيرها وكبيرها ولد النوق.
أم أيمن رضي الله عنها وآل البيت رضي الله عنهم :
كانت أم أيمن من أقرب المقربين إلى آل البيت فعندما وقعت حادثة الإفك سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أى امرأة تعلمين عائشة قالت: حاشا سمعى وبصرى أن أكون علمت أو ظننت بها إلا خيراً.
وعندما تزوجت السيدة فاطمة رضي الله عنها كانت أم أيمن رضي الله عنها ممن جهزها لزوجها على بن ابي طالب رضي الله عنه هى وأسماء بنت عميس رضي الله عنها .
ولما توفيت السيدة زينب رضي الله عنها كانت أم أيمن رضي الله عنها ممن غسلها ومعها السيدة سودة بنت زمعة والسيدة أم سلمة رضي الله عنهن جميعاً.
حزنها على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم :
حزنت أم أيمن رضي الله عنها لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حزن الأم على ابنها ورثته بشعر معبر وقد بكت عليه أمام الصديق والفاروق رضي الله عنهم عندما زاراها إكراما لها كما كان يفعل النبى صلى الله عليه وسلم .
قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها. فلما انتهينا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أبكى أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكن أبكى أن الوحى قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها.صحيح مسلم.
وقالت أم أيمن ترثى النبى :
عين جودى فإن بذلك للدمع شفاء فأكثري م البكاء
حين قالوا الرسول أمسى فقيد ميتا كان ذاك كل البلاء
وابكيا خير من رزئناه فى الدنى ومن خصه بوحى السماء
بدموع غزيرة منك حتى يقضى الله فيك خير القضاء
فلقد كان ما علمت وصول ولقد جاء رحمة بالضياء
ولقد كان بعد ذلك نور وسراجا يضيء فى الظلماء
طيب العود والضريبة والمعدن والخيم خاتم الأنبياء
الطبقات الكبرى.
وفاتها رضي الله عنها :
اختلف فى وفاتها قال ابن كثير: وتوفيت بعد النبى صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر وقيل ستة أشهر وقيل أنها بقيت بعد قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وجاء فى مستدرك الحاكم: توفيت أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاضنته فى أول خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه .
بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة ربه إلى العالمين رجالا ونساءً ليُضيء مشارق الأرض ومغاربها، وليتمم مكارم الأخلاق. وشرُفت نساء كثيرات بصحبة الرسول الكريم، والتفت حول المائدة النبوية لتنهل من علمه وتستضيء بنوره صلى الله عليه وسلم ، فظهرت منهن الفقيهات والمقاتلات والطبيبات، والداعيات، والرافعات لراية الإسلام فى بداياته، وكانت لهن عند رسول الله المكانة العالية والإشادة، وكان لكل منهن شأن معه وأم أيمن حاضنة النبى صلى الله عليه وسلم شخصية إسلامية لها مكانتها ومنزلتها العالية فى قلب رسولنا الحبيب رضي الله عنها وأرضاها.
راوية رمضان
=======
رابط الموضوع - http://www.almagalla.info/2012/sep2.htm
=======
الإمام إبراهيم الخواص رضي الله عنه
هو ابرهيم بن أحمد بن اسماعيل، كنيته أبو اسحاق. ولد فى "سر من رأى". ومات بالرى وبها قبره وتولى غسله ودفنه يوسف بن الحسين سنة 291هـ، وهو أحد من سلك طريق التوكل. وكان أوحد المشايخ فى وقته؛ صحب أبا عبد الله المغربى وكان من أقران الجنيد، والثورى. وله فى السياحات والرياضات مقامات يطول شرحها, قيل: مرض بالجامع، وكان به علة القيام، وكان إذا قام يدخل الماء، يغتسل ويعود إلى المسجد، ويركع ركعتين، فدخل مرة الماء، فخرجت روحه فيه, وله رياضيات وسياحات وتدقيق فى التوكل. وكان لا يفارقه إبرة وخيوط، وركوة ومقارض، وقال "مثل هذا لا ينقص التوكل، لأجل الإعانة على ستر العورة، واذا رأيت الفقير بلا ذلك فاتهمه فى صلاته".
ويحكى عن إبراهيم الخواص أنه قال كان لى وقتا فترة فكنت أخرج كل يوم إلى شط نهر كبير كان حواليه الخوص فكنت أقطع شيئا من ذلك وأسفه قفافا –جمع قفة- فأطرحه فى ذلك النهر وأتسلى بذلك وكأنى كنت مطالبا به فجرى وقتى على ذلك أياما كثيرة فتفكرت يوما وقلت أمضى خلف ما أطرحه فى الماء من القفاف لأنظر أين يذهب فكنت أمضى على شط النهر ساعات ولم أعمل ذلك اليوم حتى أتيت فى الشط موضعا وإذا عجوز قاعدة على شط النهر وهى تبكى فقلت لها مالك تبكين فقالت اعلم أن لى خمسة من الأيتام مات أبوهم فاصابنى الفقر والشدة فأتيت يوما هذا الموضع فجاء على رأس الماء قفاف من الخوص فأخذتها وبعتها وأنفقت عليهم فأتيت اليوم الثانى والثالث والقفاف تجىء على رأس الماء فكنت آخذها وأبيعها حتى اليوم فاليوم جئت فى الوقت وأنا منتظرة وما جاءت قال إبراهيم الخواص فرفعت يدى الى السماء وقلت إلهى لو علمت أن لها خمسة من العيال لزدت فى العمل فقلت للعجوز لا تغتمى فانى الذى كنت أعمل ذلك فمضيت معها ورأيت موضعها فكانت فقيرة كما قالت فأقمت بأمرها وأمر عيالها سنين أو كما قال. ومن كلامه "دواء القلب خمسة: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين". وقال "من لم تبك الدنيا عليه لم تضحك الآخرة إليه" وقال "ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العالم من اتبع العلم واستعمله، واقتدى بالسنن، وان كان قليل العلم". روى عنه أنه كان إذا دعى إلى دعوة فيها خبز بائت امسك يده، وقال "هذا قد منع حق الله فيه، إذ بات ولم يخرج من يومه". وقال "ليس شىء أحب إلى من الضيف، لأن رزقه ومؤنته على الله، وأجره لى". وقال "إن أردت أن تعرف الرجل، فانظر إلى ما وعده الله، ووعده الناس، بأيهما يكون قلبه أوثق!". وقال "تعرف تقوى الرجل فى ثلاثة أشياء: فى أخذه، ومنعه، وكلامه". وسئل: ما علامة التوبة؟ فقال "إدمان البكاء على ما سلف من الذنوب، والخوف المقلق من الوقوع فيها، وهجران أخوان السوء، وملازمة أهل الخير". وقيل له: ما علامة المطرود؟ فقال "إذا رأيته منع الطاعة واستوحش منها قلبه، وحلاله المعصية واستأنس بها، ورغب فى الدنيا وزهد فى الآخرة، وشغله بطنه وفرجه، ولم يبال من اين أخذ الدنيا، فاعلم انه عند الله مباعد، لم يرضه لخدمته".
وقال إبراهيم "قرأت فى التوراة: ويح ابن آدم! يذنب الذنب ويستغفرنى فأغفر له؛ ثم يعود، ويستغفرنى فأغفر له. ويحه! لا هو يترك الذنب، ولا هو ييأس من رحمتى! أشهدكم يا ملائكتى أنى قد غفرت له". وقال ممشاذ الدينورى "كنت يوماً فى مسجدى بين النائم واليقظان، فسمعت هاتفاً يهتف: أن أردت أن تلقى ولياً من الأولياء فامض إلى تل التوبة. قال: فقمت وخرجت، فإذا أنا بثلج عظيم، فذهبت إلى تل التوبة، فإذا إنسان قاعد مربع على راس التل، وحوله خال من الثلج قدر موضع خيمة، فتقدمت إليه، فإذا هو ابرهيم الخواص، فسلمت عليه، وجلست إليه، فقلت: بماذا نلت هذه المنزلة؟ فقال: بخدمة الفقراء". ومن شعره: صبرت على بعض الأذى كله .. ودافعت عن نفسى لنفسى فعزت.
وحكى عن حذيفة المرعشى رضي الله عنه وكان خدم إبراهيم الخواص رضي الله عنه وصحبه مدة فقيل له: ما اعجب ما رأيت منه؟ فقال: بقينا فى طريق مكة أياما لم نأكل طعاما فدخلنا الكوفة فأوينا إلى مسجد خرب فنظر إلى ابراهيم وقال: يا حذيفة أرى بك أثر الجوع؟ فقلت: هو كما ترى. فقال: على بدواة وقرطاس. فأحضرتهما إليه فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أنت المقصود بكل حال والمشار إليه بكل معنى ثم قال:
أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر ....... أنا جائع أنا ضائع أنا عارى
هى ستة وأنا الضمين لنصفها ... فكن الضمين لنصفها يا بارى
مدحى لغيرك لهب نار خضتها ... فأجر عبيدك من لهيب النار
قال حذيفة: ثم دفع إلى الرقعة، وقال: اخرج بها ولا تعلق قلبك بغير الله تعالى، وادفعها إلى أول من يلقاك. قال: فخرجت فأول من لقينى رجل على بغلة فناولته الرقعة، فأخذها فقرأها وبكى، وقال: ما فعل بصاحب هذه الرقعة؟ قلت: هو فى المسجد الفلانى. فدفع إلى صرة فيها ستمائة درهم، فأخذتها ومضيت فوجدت رجلا فسألته: من هذا الراكب على البغلة؟ فقال: هو رجل نصرانى. قال: فجئت ابراهيم وأخبرته بالقصة فقال: لا تمس الدراهم فإن صاحبها يأتى الساعة. فلما كان بعد الساعة أقبل النصرانى راكبا على بغلته، فترجل على باب المسجد، ودخل فأكب على إبراهيم يقبل رأسه ويديه، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: فبكى ابراهيم الخواص فرحا به وسرور، وقال: الحمد لله الذى هداك للاسلام وشريعة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه الكرام الطيبين الطاهرين.
ومن عجائبه أيضا: قضية إبراهيم الخواص رضي الله عنه قال: كنت جائعًا فى الطريق، فوافيت الرِّى -اسم بلدة- فخطر ببالى أن لى بها معارف، فإذا دخلتها أضافونى وأطعمونى، فلمَّا دخلت البلد رأيت فيها مُنكرًا احتجت أن آمر فيه بالمعروف، فأخذونى وضربونى، فقلتُ فى نفسى: من أين أصابنى هذا، على جوعى؟ فنُوديت فى سرى: إنك سكنت إلى معارفك بقلبك، ولم تسكن إلى خالقك.
وقال إبراهيم الخواص كنت فى جبل لكام فرأيت رمانا فاشتهيته، فدنوت فأخذت منها واحدا فشققتها فوجدته حامضا، وتركت الرمان فرأيت رجلا مطروحا قد اجتمع عليه الزنابير فقلت: السلام عليك فقال: وعليك السلام يا إبراهيم. قلت: فكيف عرفتنى؟ قال: من عرف الله لا يخفى عليه شئ من دون الله. فقلت: أرى لك حالا مع الله فلو سألته أن يحميك ويقيك الأذى من هذه الزنابير. فقال لى: أرى لك حالا مع الله فلو سألته أن يقيك شهوة الرمان، فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه فى الآخرة ولدغ الزنابير يجد ألمه فى الدنيا. فتركته ومضيت. وقال إبراهيم الخواص "الورع دليل الخوف، والخوف دليل المعرفة، والمعرفة دليل القربة". وعن أبا عثمان الآدمى يقول: سألت إبراهيم الخواص عن الورع، فقال: أن لا يتكلم العبد إلا بالحق غضب أو رضى، وأن يكون اهتمامه بما يرضى الله. يقول إبراهيم الخواص "لا ينبغى لصوفى أن يتعرض للقعود عن الكسب، إلا أن يكون رجلا مطلوبا فقد أغنته الحال عن المكاسب، فأما ما كانت الحاجة فيه قائمة ولم يقع له عزوف يحول بينه وبين التكلف فالعمل أولى به والكسب أجل له وأبلغ". ويقول إبراهيم الخواص «الناس يرونى وإما أعمل وإما أتكلف من الشدة، وركوب الأمور الصعبة وحملى على نفسى؛ يظنون أنى أعمل فى رفع الدرجات، وإنما أعمل فى فكاك رقبتى من الله».
قال أبو الحسن النحرانى، صاحب إبراهيم الخواص: كنت شديد الإنكار على الصوفية فى علومهم وأبغض كل من اجتمع بهم فدخلت بغداد وأنا أكتب الحديث، فرأيت إبراهيم الخواص وحوله جماعة يتكلم عليهم، فسمعت كلامه فدخل قلبى صدق قوله فرأيته علماً صحيحاً لا بد للخلق من استعماله، فلزمته من ذلك المجلس ولم أفارقه وفرقت ما كنت جمعته من الكتب وكانت نحو حملين، ومع هذا فلم يلتفت إلى ولم يكلمنى بكلمة أياماً كثيرة، فلما عرف منى الصدق فى طلبه أدنانى وقربنى رضي الله عنه .
وقال فى قوله تعالى ﴿وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب﴾ الزمر: 54... الآية، الإنابة أن يرجع بك منك إليه, التسليم أن تعلم أن ربك أشفق عليك من نفسك, والعذاب عذاب الفراق. وكان يقول: آفة المريد ثلاثة: حب الدرهم، وحب النساء، وحب الرياسة، فيدفع حب الدرهم باستعمال الورع، وحب النساء بترك الشهوات وترك الشبع، ويدفع حب الرياسة بإثبات الخمول، وكان يقول: إذا تحرك العبد لإزالة منكر، فقامت دونه الموانع، فإنما ذلك لفساد العقد بينه، وبين الله تعالى. فلو صحت عقيدته مع الله تعالى واستأذنه فى إزالة ذلك المنكر، واستعان به لم يقم دونه مانع قط. وكان يقول: عطشت فى بادية فى طريق الحجاز، فإذا براكب حسن الوجه على دابة شهباء فسقانى الماء وأردفنى خلفه، ثم قال: انظر إلى نخيل المدينة، فانزل واقرأ على صاحبها منى السلام وقل أخوك الخضر يقرأ عليك السلام. وكان يقول: أربع خصال عزيزة, عالم مستعمل لعلمه, وعارف ينطق عن حقيقة فعله, ورجل قائم لله بلا سبب, ومريد ذاهب عن الطمع. وقال: الحكمة تنزل من السماء فلا تسكن قلبا فيه أربعة: الركون إلى الدنيا, وهم غد, وحب الفضول, وحسد أخ. قال: ولا يصح الفقر للفقير حتى تكون فيه خصلتان: إحداهما الثقة بالله, والأخرى الشكر لله فيما زوى عنه مما ابتلى به غيره من الدنيا, ولا يكمل الفقير حتى يكون نظر الله له فى المنع أفضل من نظره له فى العطاء، وعلامة صدقه فى ذلك أن يجد للمنع من الحلاوة مالا يجد للعطاء.
وقال إبراهيم: على قدر إعزاز المؤمن لأمر الله يلبسه الله من عزه ويقيم له العز فى قلوب المؤمنين، فذلك قوله تعالى ﴿ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾. وقال إبراهيم: عقوبة القلب أشد العقوبات ومقامها أعلى المقامات وكرامتها أفضل الكرامات وذكرها أشرف الأذكار وبذكرها تستجلب الأنوار عليها وقع الخطاب وهى المخصوصة بالتنبيه والعتاب.
وعن إبراهيم الخواص؛ وقد سأله بعض أصحابنا وهو يتأوه: ما هذا التأوه؟ فقال: أوه كيف يفلح من يسره ما يضره. ثم أنشأ يقول: تعودت مس الضر حتى ألفته ... وأحوجنى طول البلاء إلى الصبر، وقطعت أيامى من الناس آيسا ... لعلمى بصنع الله من حيث لا أدرى. وذكر خير النساج قال: قال لى إبراهيم الخواص: عطشت عطشا شديدا بالحاجر فسقطت من شدة العطش فإذا أنا بماء قد سقط على وجهى وجدت برده على فؤادى ففتحت عينى فإذا أنا برجل ما رأيت أحسن منه قط على فرش أشهب عليه ثياب خضر وعمامة صفراء وبيده قدح -أظنه قال: من ذهب.
عن إبراهيم الخواص قال دخلت مسجد التوبة فرأيت عبد الرحيم مستندا إلى سارية فقلت للقيم: متى قعد هذا الرجل ههنا؟ فقال: اليوم ثلاثة أيام قاعدا على ما تراه لم يخرج ولم يتكلم. فقعدت بحذائه فلما أمسينا قلت له: أى شيء تريد حتى أحمله ونأكل؟ فسكت عنى فكررت عليه، فقال: أريد مصلية معقدة وخبزا حارا. فخرجت إلى باب الشام فطلبت ذلك فلم أجده، فعاتبت نفسى وقلت: يا فضول من دعاك إلى أن تستدعى شهوته لو اشتريت خبزا وإداما وحملت استغنيت عن ذلك، ورجعت مغتما إلى المسجد فإذا رجل يدق على باب المسجد فقلت: من؟ فقال: افتح. ففتحت فإذا على رأسه زنبيل فحطه، وقال لى: أسألك أن يأكل أهل المسجد من هذا الطعام. فأخرج منه خبزا حارا ومصلية معقدة فى قدر، فبهت وقلت: لا نمسه حتى تخبرنى به. فقال: أنا رجل صانع واشتهيت مصلية معقدة وخبزا حارا فاشتريت اللحم وما يصلحه وأمرتهم بطبخه، وأن يخبزوا خبزا حارا، وجئت العتمة من الدكان وبعد ما فرغ منه ما كان خبر الخبز، فحلفت بالطلاق أن لا يأكل من هذا الخبز أو المصلية أحد إلا من فى مسجد التوبة، فأحب أن تأكلوه. قال إبراهيم: فرفعت رأسى وقلت: يا سيدى أنت أردت أن تطعمه لم غممتنى فى الوسط.
حكى عن إبراهيم الخواص قال: كنت ببغداد فى جماعة من الفقراء فى الجامع، فأقبل شاب طيب الرائحة حسن الوجه، فقلت لأصحابى: يقع لى أنه يهودى. فكلهم كرهوا ذلك، فخرجت وخرج الشاب ثم رجع إليهم وقال: أى شىء قال الشيخ فى؟ فاحتشموه، فألح عليهم، فقالوا له: قال إنك يهودى. قال: فجاءنى وأكب على يدى وقبل رأسى وأسلم، وقال: نجد فى كتبنا أن الصديق لا تخطىء فراسته. فقلت: أمتحن المسلمين. فتأملتهم، فقلت: إن كان فيهم صديق ففى هذه الطائفة، لأنهم يقولون حديثه سبحانه ويقرءون كلامه فلبست عليكم – كان لا نفسه أهلا لأن يكون صديقا.
قال إبراهيم الخواص رضي الله عنه : أجمع رأى سبعين صديقا على أن كثرة النوم من كثرة شرب الماء، وأما الصمت فإنه تسهله العزلة، ولكن المعتزل لا يخلو عن مشاهدة من يقوم له بطعامه وشرابه وتدبير أمره، فينبغى أن لا يتكلم إلا بقدر الضرورة، فإن الكلام يشغل القلب، وشره القلوب إلى الكلام عظيم، فإنه يستروح إليه ويستثقل التجرد للذكر والفكر فيستريح إليه، فالصمت يلقح العقل ويجلب الورع ويعلم التقوى، وأما حياة الخلوة ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب والقلب فى حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس، ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها، ليتفجر أصل الحوض فيخرج منه الماء النظيف الطاهر، وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض والأنهار مفتوحة إليه، فيتجدد فى كل حال أكثر مما ينقص، فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة فى بيت مظلم، وإن لم يكن له مكان مظلم فليلف رأسه فى جيبه أو يتدثر بكساء أو إزار، ففى مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال الحضرة الربوبية، أما ترى أن نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه وهو على مثل هذه الصفة، فقيل له: يا أيها المزمل، يا أيها المدثر. حديث بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مدثر، فقيل له: يا أيها المزمل، يا أيها المدثر. متفق عليه من حديث جابر (جاورت بحراء فلما قضيت جوارى هبطت فنوديت فنظرت عن يمينى...) الحديث. وفيه (فأتيت خديجة فقلت دثرونى وصبوا على الماء باردا. فدثرونى وصبوا على ماء باردا، قال: فنزلت: يا أيها المدثر). وفى رواية (فقلت: زملونى زملونى) ولهما من حديث عائشة: فقال (زملونى زملونى) فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فهذه الأربعة جنة وحصن بها تدفع عنه القواطع وتمنع العوارض القاطعة للطريق فإذا فعل ذلك اشتغل بعده بسلوك الطريق وإنما.
قال إبراهيم الخواص رضي الله عنه : العلم كله فى كلمتين لا تتكلف ما كفيت ولا تضيع ما استكفيت، فقوله لا تتكلف ما كفيت هو القسم الأول المذموم، وقوله ولا تضيع ما استكفيت هو القسم الثانى المطلوب. ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
فاللهم بجاه المصطفى والمرتضى والحسنين وأمهم البتول أكرمنا جميعا بمعرفة الأعلام الأبرار وفى صحبتهم أجمعين أحشرنا وكل المحبين والمحبوبين, اللهم بجاه المصطفى بلغنا مقاصدنا وأغفر لنا ما مضى ياواسع الكرم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
سمير جمال
=======
رابط الموضوع :- http://www.almagalla.info/2012/sep4.htm
رابط موقع التراث لتحميل الكتب :- http://burhaniya.org/books.htm
=======
كان .. ما .. كان
سيدنا موسى عليه السلام - 6
نستكمل نصيحة مؤمن آل فرعون وموعظته واحتجاجه:
قال الله تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِى آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ¤ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ¤ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ غافر40: 38-40.
يدعوهم رضي الله عنه إلى طريق الرشاد الحق، وهى متابعة نبى الله موسى عليه السلام وتصديقه فيما جاء به من عند ربه.
ثم زهدهم فى الدنيا الدنية الفانية المنقضية لا محالة، ورغبهم فى طلب الثواب عند الله الذى لا يضيع عمل عامل لديه، القدير الذى ملكوت كل شئ بيديه.
ثم شرع فى إبطال ما هم عليه، وتخويفهم مما يصيرون إليه، فقال ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ ¤ تَدْعُونَنِى لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ¤ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلَا فِى الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ¤ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ¤ فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ¤ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ غافر40: 41-46.
كان يدعوهم إلى عبادة رب السموات والارض، الذى يقول للشئ كن فيكون، وهم يدعونه إلى عبادة فرعون الجاهل الضال الملعون! ولهذا قال لهم على سبيل الانكار ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ ¤ تَدْعُونَنِى لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّار﴾.
ثم بين لهم بطلان ما هم عليه من عبادة ما سوى الله من الانداد والاوثان، وأنها لا تملك من نفع ولا إضرار، فقال ﴿لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلَا فِى الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أى لا تملك تصرفا ولا حكما فى هذه الدار، فكيف تملكه يوم القرار؟ وأما الله عزوجل فإنه الخالق الرازق للابرار والفجار، وهو الذى أحيا العباد ويميتهم ويبعثهم، فيدخل طائعهم الجنة، وعاصيهم إلى النار.
ثم توعدهم إن هم استمروا على العناد بقوله ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ قال الله ﴿فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ أى بإنكاره سلم مما أصابهم من العقوبة على كفرهم بالله، ومكرهم فى صدهم عن سبيل الله، مما أظهروا للعامة من الخيالات والمحالات، التى ألبسوا بها على عوامهم وطغامهم.
ولهذا قال ﴿وَحَاقَ﴾ أى أحاط ﴿بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ¤ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ أى تعرض أرواحهم فى برزخهم صباحا ومساء على النار. ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾.
والمقصود أن الله تعالى لم يهلكهم إلا بعد إقامة الحجج عليهم، وإرسال الرسول إليهم، وإزاحة الشبه عنهم، وأخذ الحجة عليهم منهم، بالترهيب تارة والترغيب أخرى، كما قال تعالى ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ¤ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ¤ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ¤ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ الأعراف 7: 130-133، يخبر تعالى أنه ابتلى آل فرعون القبط، بالسنين وهى أعوام الجدب التى لا يستغل فيها زرع ولا ينتفع بضرع. فلم ينتفعوا ولم يرتدعوا، بل تمردوا واستمروا على كفرهم وعنادهم. ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أى مهما جئتنا به من الآيات - وهى الخوارق للعادات - فلسنا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نطيعك، ولو جئتنا بكل آية. وهكذا أخبر الله عنهم فى قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ¤ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ يونس 10: 96-97. قال الله تعالى ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾
فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مغلولا، ثم أبى إلا الاقامة على الكفر والتمادى فى الشر، فتابع الله عليه بالآيات، فأخذه بالسنين: فأرسل عليه الطوفان ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم، آيات مفصلات، فأرسل الطوفان ففاض على وجه الارض ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا ولا أن يعملوا شيئا، حتى جهدوا جوعا. فلما بلغهم ذلك ﴿قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَائِيلَ﴾ الأعراف 7: 134. فدعا موسى ربه فكشفه عنهم.
فلما لم يفوا له بشئ مما قالوا أرسل الله عليهم الجراد، فأكل الشجر فيما بلغنى، حتى إن كان ليأكل مسامير الابواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يفوا له بشئ مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمل، فذكر أن موسى عليه السلام ، أمر أن يمشى إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم، فضربه بها، فانثال عليهم قملا، حتى غلب على البيوت والاطعمة، ومنعهم النوم والقرار، فلما جهدهم قالوا مثل ما قالوا له، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشئ مما قالوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، فملات البيوت والاطعمة والآنية، فلا يكشف أحد ثوبا ولا طعاما، إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه. فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم، فلم يفوا بشئ مما قالوا، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياه آل فرعون دما، لا يستقون من بئر ولا نهر، ولا يغترفون من إناء، إلا عاد دما عبيطا.
قال الله تعالى ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَائِيلَ ¤ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ¤ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ الأعراف 7: 134-136.
يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم واستمرارهم على الضلال والجهل، والاستكبار عن اتباع آيات الله، وتصديق رسوله، مع ما أيده به من الآيات العظيمة الباهرة، والحجج البليغة القاهرة، التى أراهم الله إياها عيانا، وجعلها عليهم دليلا وبرهانا. وكلما شاهدوا آية وعاينوها، وجهدهم وأضنكهم، حلفوا وعاهدوا موسى لئن كشف عنهم هذه ليؤمنن به، وليرسلن معه من هو من حزبه، فكلما رفعت عنهم تلك الآية عادوا إلى شر مما كانوا عليه، وأعرضوا عما جاءهم به من الحق ولم يلتفتوا إليه، فيرسل الله عليهم آية أخرى هى أشد مما كانت قبلها وأقوى، فيقولون ويكذبون، ويعدون ولا يفون ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَائِيلَ﴾ فيكشف عنهم ذلك العذاب الوبيل، ثم يعودون إلى جهلهم العريض الطويل. هذا، والعظيم الحليم القدير، ينظرهم ولا يعجل عليهم، ويؤخرهم ويتقدم بالوعيد إليهم. ثم أخذهم بعد إقامة الحجة عليهم، والاعذار إليهم، أخذ عزيز مقتدر، فجعلهم عبرة ونكالا وسلفا لمن أشبههم من الكافرين، ومثلا لمن اتعظ بهم من عباده المؤمنين.
كما قال تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين، فى سورة حم والكتاب المبين ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ¤ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ¤ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ¤ وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ¤ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ¤ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِنْ تَحْتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ ¤ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ¤ فَلَوْلَا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ¤ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ¤ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ¤ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾ الزخرف 43: 46-56.
يذكر تعالى إرساله عبده الكليم الكريم إلى فرعون الخسيس اللئيم، وأنه تعالى أيد رسوله بآيات بينات واضحات، تستحق أن تقابل بالتعظيم والتصديق، وأن يرتدعوا عماهم فيه من الكفر ويرجعوا إلى الحق والصراط المستقيم، فإذا هم منها يضحكون وبها يستهزئون، وعن سبيل الله يصدون وعن الحق ينصرفون. فأرسل الله عليهم الآيات تترى يتبع بعضها بعضا، وكل آية أكبر من التى تتلوها، لان التوكيد أبلغ مما قبله. ﴿وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ¤ وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ﴾ لم يكن لفظ الساحر فى زمنهم نقصا ولا عيبا، لان علماءهم فى ذلك الوقت هم السحرة، ولهذا خاطبوه به فى حال احتياجهم إليه، وضراعتهم لديه، قال الله تعالى ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾. ثم أخبر تعالى عن تبجح فرعون بملكه، وعظمة بلده وحسنها، وتخرق الانهار فيها، وهى الخلجانات التى يكسرونها أيام زيادة النيل ثم تبجح بنفسه وحليته، وأخذ يتنقص رسول